الدين والحياةسلايدر

الملكية المواطنة في أرض مسلمة: هكذا بلور محمد السادس نموذج تديّن كوني

بقلم: منتصر حمادة

كتاب “الملكية المواطنة في أرض مسلمة: كيف بلور محمد السادس نموذج تديّن كوني”، لعبد الله بوصوف، أمين عام مجلس الجالية المغربية بالخارج، صدر بالفرنسية عن النشر “لوسير”، وجاء في 445 صفحة، وموزع على ثلاثة أجزاء، والعمل عبارة عن تفكير موسع في مشروع إعادة تأهيل الحقل الديني الذي باشره محمد السادس، شارحاً مكمن التفرد التاريخي للمغرب، واستعداده لاضطلاع بدور بناء في السياق الراهن، خصوصاً في الفضاءات التي يتواجد فيها الإسلام، ومن ذلك الساحة الأوربية، وخاصة الساحة الفرنسية التي تعج بعدة قلاقل في معرض تدبير الشأن الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالمساجد والمؤسسات الثقافية والدينية وأنماط التديّن الإسلامي وقضايا أخرى.

مما يُحسب للكتاب، أنه يساهم في سياق التصدي للفراغ السائد حول موضوعه، وخاصة في الساحة الفرنسية، أخذاً بعين الاعتبار غياب أعمال جامعة حول النموذج الديني المغربي بسبب غياب كتاب موثق باللغات العالمية، ولذلك تضمن العمل مجموعة وثائق في سياق التعريف بمشروع هيكلة الحقل الديني في المغرب. كما يتميز الكتاب بالخوض في مجموعة من الأسئلة التي تطرح في الفكر السياسي الغربي، كمسألة الملكية التي لطالما تتم مناقشتها في الفكر السياسي انطلاقاً من نموذج الملكية الفرنسية التي تصور الملكية كنقيض للفكر الديمقراطي، ومن هنا جاءت أهمية إبراز خصوصية الملكية في المغرب باعتبارها ملكية مواطنة مبنية على البيعة.

نحن إزاء مساهمة بحثية تروم الإجابة على سؤال كونية النموذج الديني المغربي، وقدرته على الانتقال إلى سياقات مجتمعية أخرى وتقديم إجابات عن إشكاليات التطرف والإرهاب والقلاقل المعاصرة، وإظهار خبرة المغرب في تدبير التعدد الديني واللغوي، التي اكتسبها النموذج الديني المغربي سواء خلال احتكاكه بالمجتمعات الإفريقية من خلال التصوف، أو المجتمعات الأوربي عبر التجربة الأندلسية.

ويتشكل هذا النموذج وفق رؤية المؤلف من ثلاث عناصر أساسية، جاءت مفصلة في الكتاب، وهي المذهب المالكي الذي يتميز بالليونة والقدرة على التأقلم مع مختلف السياقات المجتمعية بناءً على مبدأ العرف والمصالح المرسلة؛ والعقيدة الأشعرية التي استطاعت أن تجمع بين العقل والروح؛ والتصوف السني الذي يعرفه الكاتب كمنطقة عازلة تجمع جميع الديانات للتحاور وتعمل على تهذيب السلوك والتربية على أساس المحبة كيفما كانت المرجعية الدينية.

تميز الكتاب بمقدمة حرّرها أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، حيث اعتبر أن العمل يروم تسليط الضوء على تدبير الشؤون الدينية بين الدولة والأمة بالمغرب، ويكشف من خلال العديد من المقاطع الموضحة، الدور الجوهري لمؤسسة إمارة المؤمنين في حياة المغاربة، كما يشتغل العمل، يضيف التوفيق، على المسار الدستوري الحديث الذي ينخرط فيه المغرب، بما يجعل المتتبع الغربي أقل تشاؤماً في ما يتعلق بالإسلام وعلاقة الدين بالسياسة وبالمجتمع.

ــ جاء الجزء الأول من العمل تحت عنوان “التراث التاريخي الداعم لإصلاح الحقل الديني”، حيث تناول بوصوف آفاق إعادة هيكلة الشأن الديني بالمغرب من خلال التجذر العميق والمتماسك الذي يربط الدولة بالملكية، انطلاقاً من الخطاب الملكي المؤرخ في 20 غشت 2016. وتفرع هذا الجزء على فصلين، يبسط المقدمات المنهجية لدراسة الحقل الديني بالمغرب من خلال التطرق إلى مفاهيم بعض المصطلحات التي تتكرر كلما تعلق الأمر بعلاقة الدولة المغربية بالسياسة وبالدين، من قبيل الإصلاح، والمصلح، والشأن الديني، والشرعية، وإضفاء الشرعية، والمشروعية. كما تتبع مسار التطور، بالمغرب، للإسلام الوسطي والمعتدل، الذي يدعو إلى قيم التسامح والسلم والعيش المشترك، ويدين بشدة الإرهاب والتطرف.

ــ بالنسبة للجزء الثاني، فجاء تحت عنوان “التراث التاريخي على ضوء تحديث الدولة والحقل الديني”، وكان موزعاً على أربعة فصول، واشتغل فيه المؤلف على تحليل مجتمع وأمة ودولة مرجعيتها الإسلام، وذلك لتوضيح أن مسألة التدين تقودها بالفعل إمارة المؤمنين، وتدبيرها وتنظيمها العملي تضمنها مؤسسة العلماء. وهكذاً، خصص الفصل الأول لموضوع المؤسسة الملكية وأساس شرعيتها بالمغرب، بينما تطرق الفصل الثاني للبيعة وإمارة المؤمنين، وأبعادها التاريخية والدستورية وتطوراتها المؤسساتية ودينامية سلطاتها. أما الفصل الثالث فقد خصص لموضوع الإسلام بالمغرب كدين للدولة، بينما تطرق الفصل الرابع لثلاثية العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، والتصوف السني.

ــ وأخيراً، خصّص الجزء الثالث، وجاء تحت عنوان “الحقل الديني المغربي: تجربة بسيطة أو نموذج قابل للاستنساخ”، للتوقف عند ثلاث قضايا تدور مشروع إصلاح الحقل الديني بالمغرب، بما خوّل للمؤلف لاحقاً التفكير في إمكانية أن يكون هذا الإصلاح قابلاً للنقل والاستنساخ في أوربا وإفريقيا، وقد هذا الجزء، عدة مفاتيح نظرية، نزعم أنها مفيدة للاشتغال على هامش القلاقل السياسية والإيديولوجية وغيرها، السائدة خلال الأشهر الأخيرة في الساحة الفرنسية، عندما نبّه المؤلف إلى أن فرنسا على الخصوص، وباقي الدول الكبرى في أوربا، تضم جاليات مسلمة، تنهل أغلبها من المالكية (المتسامحة أو المعتدلة في تعاملها مع باقي المذاهب)، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني، وخاصة التصوف الذي ينهل من أبي القاسم الجنيد. (ص 339)، متوقفاً ملياً عند الأدوار التي يمكن أن يقوم بها التصوف من أجل تغذية المشترك الإنساني وقواسم المواطنة في الساحة الأوربية.

كانت عبارة “الملك الإصلاحي” [Souverain réformateur ou Roi réformateur ] حاضرة في الكتاب، وخاصة في المقدمة (ص 20) والخاتمة (ص 409)، سواء تعلق الأمر بمضامين هيكلة الحقل الديني، وصيانته، من خلال عدة محطات وقرارات ومبادرات، كما نعاين في الجزء الثاني على الخصوص، وخاصة الفصل الرابع منه والمخصص جزء منه بالمواقف الملكية الصريحة ضد الغلو الديني والتطرف العنيف، كما نقرأ ذلك في وقفات المؤلف مع مضامين الخطاب الملكي المؤرخ في 20 غشت 2016، على هامش الخطاب الخاص بثورة الملك والشعب، وهو الخطاب الذي جاء مترجماً في الكتاب (ص 413 ــ ص 416)، حتى إن أولى محطات الجزء الأول من الكتاب، تضمنت عنواناً فرعياً دالاً في هذا الصدد، وجاء فيه: “إصلاحات ومصلح”، في إحالة على الإصلاحات الصادرة عن مؤسسة إمارة المؤمنين، وذات الصلة بالحقل الديني.

تضمن الكتاب مجموعة جداول خاصة بتبسيط المعلومة للقارئ، من قبيل الجداول التي تتطرق إلى الأسر الملكية التي مرت على سدة الحكم في المغرب، منذ عقد الأدارسة حتى عهد الأسرة العلوية (ص 67 ــ ص 68)، أو القرارات الخاصة بتنظيم مؤسسة العلماء في المغرب، من قبيل المجلس العلمي الأعلى أو الرابطة المحمدية للعلماء وباقي المؤسسات الدينية، (ص 214 ــ ص 217)، وهي الإشارة التي التقطها أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، منوهاً بأهميتها بالنسبة للمتلقي/ القارئ الأوربي على الخصوص، وإن كانت لا تهم القارئ المحلي والإقليمي وحسب، بل تهم حتى المحليين والمعنيين بالاشتغال على قضايا الحقل الديني، وثنائية الدين والسياسة وموضوع الإصلاح الديني في سياقه الإسلامي وأداء المؤسسات الدينية، وقضايا أخرى.

بخصوص مفهوم نقل أو محاكاة [transposabilité] النموذج المغربي في تدبير الشأن الديني، أو قل استلهام التجربة المغربية في تدبير الشأن الديني، اعتبر المؤلف أن المفهوم يقتضي استحضار مختلف الاجتهادات القانونية الخاصة بباقي المجالات الثقافية، سواء تعلق الأمر بالدول أو بالمجالات الإقليمية، مع استحضار مختلف الديناميات القائمة في هذه المجتمعات، مضيفاً أن المحدد الديني، يُعتبر من بين أهم هذه المحددات في موضوع الدينامية المجتمعية. (ص 288)

استشهد بوصوف بالعديد من الأسماء البحثية المحلية والأجنبية، منها عبد الله العروي، وخاصة في الفصل الثاني من الجزء الثالث، على هامش الخوض في علاقة الإسلام بأوربا، والرغبة الأوربية في معرفة الآخر [المنطقة المغاربية مثلاً]، ومما جاء في هذه الإشارة، أن الأوربيين كان لديهم هوس معرفة الآخر، منذ القدم، ولكن هل هذا الآخر حقاً آخر”. (ص 320). وجاء استحضار هذه الإشارة لصاحب “المفاهيم”، على هامش خوض المؤلف في البحث عن أجوبة على سؤال مؤرق، كانت صيغته كالتالي: “ما هي الهوية الأوربية؟ [في الزمن المعاصر على الخصوص، على اعتبار أن تلك الهوية في مطلع القرن العشرين، أصبحت مغايرة عن هوية أوربا في مطلع الألفية الثالثة].

في معرض البحث عن قواسم ثقافية مشتركة مع الآخر الأوربي، اشتغل يوصوف على أعمال لويس ماسينيون، رغم إقراره بأن الخوض في هذا الموضوع، من شأنه إثارة عدة قلاقل عند بعض المستشرقين أو المشتغلين على الإسلاميات (ص 341)، مستشهداً هنا برسالة وجهها الملك محمد السادس، إلى جمعية أصدقاء لويس ماسينيون، على هامش مؤتمر نظم بالعاصمة الرباط، في 10 أكتوبر 2006، وهي الرسالة التي تصب في الدفاع عن خيار الحوار بين الأديان، أو بين أتباع الأديان، في مواجهة خطاب الصدام والعنف، الصادر والسائد عند الجميع، واتضح في العمل، أنه سبق للملك محمد الخامس أن خاطب لويس ماسينيون، بعبارة صديقنا، في مارس 1953، منوهاً باشتغاله النظري النوعي على ثنائية الروح الإسلامية والثقافة العربية، ومبرهناً أن الإسلام والمسيحية، يمكن لهما الاشتغال معاً على ما يخدم الإنسانية. (ص 343)، مضيفاً في مقام آخر، أن استلهام النموذج المغربي في تدبير المسألة الدينية، من شأنه أن يصب في التأسيس لأنماط معتدلة من التديّن، ومتسامحة، ومنفتحة على الآخر، بما في ذلك الانفتاح على الحوار مع باقي الأديان. (ص 411).

صدر الكتاب قبل خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون المؤرخ في 2 أكتوبر 2020، والذي تحدث فيه عن “الانفصالية الإسلامية”، ونحسبُ أن الكتاب يتضمن مجموعة مفاتيح تصب في الاشتغال النظري الهادئ على هذه القضايا الحارقة، وخاصة مضامين الجزء الثاني منه، والذي يهم مميزات النموذج المغربي في التديّن، في تفاعلها مع الخصوصية الفرنسية والأوربية.

زر الذهاب إلى الأعلى