الدين والحياةسلايدر

مفاتيح هوستن سميث في كتابه “لماذا الدين ضرورة حتمية”

بقلم ✍️ منتصر حمادة

نحن في ضيافة نداء يختصر المصير الذي آل إليه العالم المعاصر، كما يصوره هوستن سميث البروفيسور الأمريكي، صوفي المشرب، وأستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية، وصاحب كتاب “أديان العالم” الأكثر رواجاً؛ والذي بيع منه في أمريكا وأوروبا ما يربو على المليوني نسخة، ومؤلف كتاب: “لماذا الدين ضرورة حتمية؟” (تعريب: سعد رستم)، لبيان أهمية البعد الديني في الحياة الإنسانية؛ سواء على صعيد الأفراد أو المجتمعات أو الحضارات.

يقدم هوستن في هذا المؤلَّف، كما يقول سعد رستم في ترجمته، دراسة نقدية فلسفية واجتماعية وعلم ـ نفسية وتاريخية تشرح ملامح تلك الأزمة، وما أنتجته من تصور مادي للعالم يقلص وجود الإنسان، ويحرمه من كل أبعاده الروحية، وما يتبع ذلك من اختناق روحي، وفقدان للأمل وسيطرة للمادية والفردية والاستهلاكية والعولمية والأنظمة القانونية المتنكرة للقيم الدينية والسياسات الحكومية المجردة من المبادئ الأخلاقية (خاصة في وطنه الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة الحضارة الغربية)، مشبهاً ذلك بـ”نفق مظلم”، والذي حُبس فيه إنسان الحداثة الفاقد للإيمان.

جاء الكتاب موزعاً على مقدمة المترجم، وتمهيد المؤلف وستة عشر فصلاً، متفرعة على جزئين: نفق الحداثة المظلم، والضوء في نهاية النفق. وتضمن الجزء الأول الفصول التالية: من على حق في معرفة الحقيقة: التقليديون أو الحداثيون أم ما بعد الحداثيين؟، الهواء الطلق والنفق المظلم داخله، النفق المظلم بحد ذاته، أرضية النفق: العلموية، الجدار الأيسر للنفق: التعليم العالي، سقف النفق: وسائل الإعلام، الجدار الأيمن للنفق: القانون.

أما الجزء الثاني، فقد تضمن الفصول التالية: النور، هل النور في ازدياد، تمييز علامات الأزمنة، ثلاث علوم والطريق الذي أمامها، شروط الانفراج، هذا العالم الغامض، الصورة الكبرى، أنماط الشخصية الروحية، الروح، ربما لا نزال أخوة أشقاء.

يتتبع المؤلف في الجزء الأول من الكتاب الأسس الفكرية والفلسفية التي يستند إليها هذا المفهوم العلمي المادي للعالم، فيفندها علمياً، ليقدم في الجزء الثاني من الكتاب مؤيدات التصور الديني للعالم من خلال عدة فصول يطرح فيها معلومات علمية وفلسفية غاية في الروعة تدعم الإيمان بالله وبالروح ببقاء الوعي والحياة الشعورية بعد الموت، موضحاً القاسم المشترك بين أديان العالم في هذا الصدد، وداعيا في مطلع الألفية الثالثة إلى مجتمع تحترم فيه الروح الإنسانية وتشجع لاستثمار إمكانياتها الرائعة كاملة، وتلتقي فيه القوتان الأقوى في التاريخ (أي الدين والعلم) ليحلا خلافاتهما ويرسيا أصول التعاون والعلاقة المتبادلة بينهما، ويستمر فيه الدين بلعب دوره الذي لا غنى للبشرية عنه، بوصفه المصدر الحيوي الزاخر للحكمة الإنسانية، والبوصلة الأخلاقية التي يجب أن تقود مسيرة حياتنا.

برأي المؤلف، ترجع أسباب الأزمة التي يمر بها العالم إلى أمور أعمق من طرق تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية. إن الشرق والغرب يعانيان، كل بطريقته، من أزمة واحدة مشتركة سببها الحالة الروحية للعالم الحديث، فقد استمت هذه الحالة الروحية بفقدان اليقين الديني وفقدان الإيمان بالسمو والتعالي على الوجود المادي بآفاقه الرحبة الواسعة.

طبيعة هذا الفقدان غريبة، لكنها، في النهاية، منطقية ومتوقعة، وخاصة مع تدشين عصر النظرة العلمية البحتة، وبدء إحساس البشر بأنهم أصبحوا يمتلكون أسمى المعاني في العالم ويعرفون مقاييس ومقادير كل شيء، بدأت المعاني بالانحسار، وأخذت مكانة الإنسانية تتضاءل، لذا فقد العالم بعده الإنساني، وبدأنا نفقد السيطرة عليه.

يؤمن المؤلف بضرورة أن تتخلص الروح الإنسانية من الرؤية النَفَقِيَّة للحداثة إذا أرادت أن تتقدم بنحو أفضل مما فعلته فيما سبق، ويفصل هذا الكلام بقوله: “لا يمكن للوجود الدنيوي (الأرضي)، بسبب محدوديته وتناهيه أن يشبع قلب الإنسان بشكل كامل. هناك في فطرة الإنسان توقٌ وتطلعٌ نحو “الأكثر”. ولا يمكن لعالم الممارسات الحياتية اليومية أن يشبع هذا التطلع”. كما يُحمّل هوستن العلمَ الحديث مسؤولية فقدان العالم لبعده الإنساني؛ “فقبل أن يأتي  عصر العلم الحديث، كان الناس يعيشون ضمن الرؤية الكونية التي تتطابق مع الخطوط  العريضة، رؤية تعددت طرق التعبير عنها، إلا أنها واحدة في الخط العام، وجاء العلم ليستبدل تلك الرؤية التقليدية، بالرؤية العلمية للكون”.

قد يبدو هوستن لبعض الناس عنيفاً في نقده للعلم الحديث، ولما سأله، باستغراب، أحد الصحفيين: تبدو دائماً وكأنك غاضب من العلم! أجابه في عبارات بالغة الأهمية: “أنا غاضب من أنفسنا ـ نحن الغربيون ـ الذين تخلينا عن التفكير الصافي النقي، وسمحنا لأنفسنا بأن نصبح مهووسين بالأسس المادية للحياة، لدرجة جعلتنا نمنح العلم شيكاً على بياض بشأن دعاوي العلم المتعلقة بالمعرفة والاعتقاد الصحيح”. وفي مكان آخر من الكتاب يوضح هوستن أن نقده للحداثة الغربية لا يندرج ضمن “النقد من أجل النقد”. ويزيد هذا الأمر توضيحاً عندما يقول: لو كانت رياح الحداثة تحمل في طياتها الحقيقة، لكنت انحنيت لها وأذعنت، لكنني لم أرها كذلك.

يُلح هوستن على ضرورة التفكير في الأسئلة النهائية التي يريد البشر معرفتها مثل: ما معنى الوجود؟ لماذا يوجد الألم والموت؟ ما الذي يجعل الحياة تستأهل أن نعيشها؟ ما هي الحقيقة، ما موضوعها وما هدفها؟. و”هذه الأسئلة هي التي تُشكل الجوهر الحاسم والحقيقي لإنسانيتنا”، ملاحظاً أن دخول هذه الأسئلة إلى وعينا هو الذي يخبرنا بغاية الدقة وبنحو حاسم أي نوع من المخلوقات نحن. “إن إنسانيتنا تزدهر كلما غصنا وانغمسنا في هذه الأسئلة؛ نتأملها، نفكر بها، تصبح هاجسنا، وفي النهاية نسمح لهذا الهاجس والهوس أن يستهلكنا”، وهذا ما دفع هوستن إلى الإيمان بكون التعريف الديني لماهية الإنسان أعمق بكثير من تعريف أرسطو بأنه “حيوان ناطق أو حيوان عاقل”. ويضيف: في التعريف الديني للإنسان: الإنسان هو الحيوان الذي يقوده عقله للسؤال والبحث عن تلك الموضوعات النهائية.

في زيارة المؤلف لأبرز رموز الحداثة، تشارلز داروين، كارل ماركس، فريدريك نيتشه وألبرت آينشتاين، نطلع على قراءة نقدية، حافلة بالاستشهادات. ونبدأ بالذي صدر في حق داروين، فحتى الآن، يضيف المؤلف، تُوفّر النظرية الداروينية تفسيراً جزئياً لكيفية مجيئنا نحن البشر إلى هذه الأرض، وهذا الجزء من “الداروينية” ينبغي تعليمه، كما أنه من الجهة الأخرى، يجب بذل الجهود لملء الفجوات التي لا تزال موجودة في تلك النظرية. أما الادعاءات العريضة التي تصل إلى حد اعتبار النظرية “الداروينية” نظرية كاملة تمثّل قمة القصة إلى درجة تسمح لها بأن تدّعي أنه لا يوجد سبب لتفكير بأن تكون أي علل أخرى أيضاً لعبت دوراً في تكوُّن الإنسان، فهذا ما يجب الكفّ عنه.

بالنسبة لكارل ماركس، فيذكرنا سميث بأن أغلب تنبؤات ماركس لم تتحقق، وإذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الجماهير التي كانت تتلوَّى من اليأس والإحباط في معسكرات العمل الشيوعية، دون الحديث عن الخسائر في الأرواح بسبب الإعدامات والتصفيات في الاتحاد السوفياتي البائد (ما بين مائة مليون نسمة سقطوا ضحايا هذه المنظومة عند البعض وعشرة ملايين عند البعض الآخر). إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه المآسي، يتضح أن إيمان ماركس بهندسة المجتمع ورغبته بالتضحية بكل شيء في سبيل تحقيق هذا الغرض هو السبب الكامن وراء هذه التصفيات.

بالنتيجة، فإن محاولات تثوير العالم لجعله متطابقا مع إيديولوجية تمَّ اعتناقها لا يمكن أن يؤدي إلا إلى حكم شمولي، لأن التاريخ، والكلام لهوستن سميث، أعقد من أن نتعامل معه بنفس طريقة تصميم الأجسام المادية مع أهدافنا العقائدية والتصورية.

وعن نيتشه، يرى المؤلف أنه ربما يكون من الخطأ لوم النازية على نيتشه مباشرة، رغم أن كثيراً من أفكاره ساهم في إيجاد ذلك الجنون، ومأزق نيتشه الأكبر، برأي المؤلف دائماً، أنه يعطينا نصف الحقيقة فقط، وهذا لا يمنع أن عظمته لن تقلّ حتى لو لم يكن من سبب لذلك سوى أنه، كما عبر عن ذلك وليام غاس: “لقد عضَّ قيمنا ومُثلنا كما لو أنها عملات معدنية مُريبة، وترك على كلِّ منا تثلُّما من أثر أسنانه”.

لم يتبق لنا سوى سيغموند فرويد، حيث ارتأى المؤلف الاشتغال على نظرية مضادة لأطروحة داروين، جاءت في كتاب “مصادر الحب والكراهية” لعالم النفس إيان سوتي، والذي أصبح مقتنعاً أن القمع والكبت الرئيسي الذي نعاني منه ليس كبت الدوافع الجنسية والعدوانية، بل كبت دوافع المحبة والانفتاح، ويتمثل هذا الكبت لدى الأفراد، بمجموعة من المحرمات ضد الشفقة في ثقافتنا. وينبه المؤلف المتلقي، بأنه بدلاً من تضييع الوقت في تفنيد نظريات فرويد سيتم بشكل أفضل لو ممرنا عبر فهم البديل الآخر، أي مدى المحبة من تأثير في تفتيق إبداعية الإنسان وتحويله إلى كائن سعيد خيِّر خال من التوترات.

يبقى حرياً التنويه بالمجهود الذي بذله المترجم، عندما نأخذ بعين الاعتبار أن الكتاب جاء حافلاً بكثرة المصطلحات العلمية والتقنية والمفردات الدينية من جهة، وبحكم استشهاد المؤلف في أثناء كلامه باقتباسات من كلام العديد من الشخصيات العلمية والأدبية والفلسفية، وأحال لكثير من التيارات الفكرية والفلسفية والدينية التي قد يكون بعضها مجهولاً لدى بعض القراء، فقد استدعى الأمر من المترجم، أن يعلّق حواشي مختصرة توضّح الشخصية المذكورة في المتن أو تشرح التيار الفكري أو الفسلفي المذكور، حيث جاءت حواشي الكتاب بأسرها للمترجم، إذ لم يضع المؤلف في كتابه أيّة حاشية مطلقاً، ولمزيد من الفائدة، أضاف ملحقاً كشّافاً بأهم المصطلحات الفلسفية والشخصيات والتيارات المذكورة فيه، نحن إذا إزاء كتاب مصاحب لكتاب هوستن سميث، إن صح التعبير، أو عمل علمي مضاف على عمل سميث.

زر الذهاب إلى الأعلى