أخبار الدارسلايدر

افتتاحية الدار: حكومة أخنوش تتجاوز منطق الظرفية وتتشبث بالإصلاحات الجوهرية..تضع بصمة تاريخية بإطلاق ورش تعميم التغطية الصحية وإصلاح قطاع الصحة

الدار/افتتاحية

من العلامات الفارقة في تجارب الحكومات ما تخلّفه وراءها من إصلاحات جوهرية. ويُقصد بالإصلاحات الجوهرية في قاموس العلوم السياسية تلك المشاريع والبرامج والقوانين والمنظومات التي يتم إرساء قواعدها وتطبيقها وفتحها أمام عموم المواطنين وتمثّل ثورة حقيقية في تاريخ المجال الذي تتعلق به. عندما أسس المغرب بعد الاستقلال مباشرة مؤسساته المالية والسياسية والاقتصادية كان ذلك بمثابة ثورة في مجال بناء أسس الدولة الحديثة، وعندما عيّن الملك محمد السادس في بداية الألفية هيئة الإنصاف والمصالحة وأقرّ تقريرها الشهير كان ذلك بمثابة ثورة حقوقية، وعندما نجحت حكومة التناوب في تنفيذ برنامج كهربة العالم القروي كان ذلك أيضا ثورة على مستوى البنيات التحتية في بلادنا.

واليوم تشرف حكومة عزيز أخنوش على ثورة لا تقل عن سابقاتها من حيث الأهمية والأثر والانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية. بل لن نبالغ إذا قلنا إن هذه الثورة قد تعتبر الأكثر أهمية في تاريخ المغرب المعاصر. يتعلق الأمر بالمشروع الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية. وما قدّمه رئيس الحكومة عزيز أخنوش أمام نواب الأمة في الجلسة الشهرية المنعقدة يوم أمس الاثنين من تفاصيل وبرامج وأوراش تعتبر بمثابة ثورة صحية سيعيشها المغرب وسينعم بها المغاربة لأول مرة منذ الاستقلال. تعميم التغطية الصحية الإجبارية وتنفيذ برنامج المجموعات الصحية الجهوية وإنشاء وكالة وطنية للدم والرفع من أعداد الطلبة المكونين في مجال مهن الصحة والطب بالإضافة إلى إنصاف الفئات العاملة بهذا القطاع بمختلف الامتيازات سواء بالزيادة في الأجور أو من خلال الترقيات… كل هذه المنجزات وغيرها تؤكد أن هذه الحكومة التي تعمل تحت ضغط الإكراهات الاقتصادية الدولية لا تفكر بمنطق ظرفي وإنما تعمل بمنطق استراتيجي وبنيوي لترك آثار إيجابية وحقيقية في حياة المغاربة.

كان من الممكن لأي حكومة تولّت المسؤوليات في سياق ارتفاع صاروخي في أسعار المحروقات عالميا وتزايد مستويات التضخم وأزمة اقتصادية دولية عنوانها الرئيسي النقص في المواد الأساسية وارتباك في سلاسل التوريد، ألّا تزعج حساباتها بمشاريع وأوراش من هذا الحجم الكبير والهائل، وأن توظف الموارد المتوفرة في شراء الرضا الشعبي بمزيد من الدعم الذي سيضخ في صندوق المقاصة، وانتهى الموضوع. لكن هذا لا ينطبق على حكومة أخنوش التي لا تزال وفية لالتزاماتها التي قطعتها على نفسها أمام المواطنين سواء خلال الحملة الانتخابية أو مباشرة بعد تنصيبها عبر تصريحها الحكومي. إن العرض الذي قدّمه رئيس الحكومة عزيز أخنوش عن ورش قطاع الصحة يلخّص ببساطة التوجه الذي تسير عليه هذه الحكومة وانسجامها التام مع الاختيارات الكبرى التي يسير فيها المغرب.

ولعلّ أهم هذه الاختيارات هو بناء الدولة الاجتماعية كما تصوّرها جلالة الملك محمد السادس مباشرة بعد الصدمة العالمية التي مثّلتها جائحة فيروس كورونا المستجد. إن حكومة عزيز أخنوش ترى أن موارد المغاربة لن تنفعهم إذا استهلكت في سياسات دعم تقليدية بعيدا عن الإصلاحات العميقة المؤثرة. لذلك فإن التركيز على قطاع الصحة ينمّ عن وعي سياسي بالغ بأهمية هذا القطاع في المرحلة الراهنة التي يمرّ منها المغرب، بعد أن خلقت الدينامية الاقتصادية الناتجة عن تدفق الاستثمارات وتطور المجال الصناعي احتياجات جديدة لدى غالبية المغاربة تتعلق أساسا بالاهتمام والعناية بصحتهم وحمايتهم أيضا من المفاجآت غير المتوقعة التي يمكن أن تعصف باستقرارهم الاجتماعي والنفسي.

تستحق حكومة عزيز أخنوش التحية الخاصة لأنها أصرّت على السير قُدما في تنزيل هذا الورش على الرغم من كل الإكراهات المحيطة بالتوازنات المالية للبلاد، وعلى الرغم من كل النداءات والضغوطات التي تمارس على هامش مشكلة ارتفاع الأسعار، وعلى الرغم من ضبابية المشهد الاقتصادي العالمي الذي يتأثر اليوم بمعطيات أمنية وجيواستراتيجية خطيرة. على الرغم من كل ذلك اختارت حكومة عزيز أخنوش أن تصلح وبعمق قطاعات ظلت لعقود طويلة يعاني من الأعطاب وغياب الرؤية والهدر المالي والبشري. ومهما كانت الصعوبات التي سيواجهها ورش تعميم التغطية الصحية والحماية الاجتماعية فإن النجاح فيه سيمثّل ودون شك علامة فارقة في تاريخ العمل الحكومي المغربي، وسيتذكّر المغاربة جميعا بعد سنوات من الآن كيف تركت هذه الحكومة أثرا إنسانيا واجتماعيا مفيدا لهم ولأبنائهم من الأجيال القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى