أخبار الدارأخبار دوليةسلايدر

نهاية الوجود العسكري الفرنسي بالسنغال و ملامح نظام إقليمي جديد في إفريقيا تقوده المملكة المغربية.

نهاية الوجود العسكري الفرنسي بالسنغال و ملامح نظام إقليمي جديد في إفريقيا تقوده المملكة المغربية.

يمثل إنسحاب الجيش الفرنسي من دولة السنغال لحظة مفصلية في مسار التحول الجيوسياسي الذي تشهده القارة الإفريقية، وبالخصوص منطقة غرب إفريقيا، حيث باتت ملامح نظام إقليمي جديد تتبلور في الأفق . فبخروج القوات الفرنسية من السنغال، تطوى صفحة أخرى من صفحات الوجود العسكري المباشر لفرنسا في مستعمراتها السابقة، في مشهد لا يخلو من دلالة على عمق الأزمة البنيوية التي تعيشها سياسات باريس الإفريقية، وعجزها عن التكيف مع مناخ السيادة الآخذ في التوسع.

السنغال باعتبارها من بين الدول الإفريقية التي حافظت على علاقات وثيقة مع فرنسا، كانت الى الأمس القريب تشكل رمزا لاستمرارية النفوذ السياسي والأمني والثقافي الفرنسي. غير أن قرار إنهاء الوجود العسكري الدائم فيها لا يمكن عزله عن سلسلة الإنسحابات المتتالية التي فرضتها الديناميات الإقليمية، بدءا من مالي ثم مرورا ببوركينا فاسو و وصولا إلى النيجر، وهي دول أقدمت على طرد القوات الفرنسية بشكل حاسم تحت ضغط شعبي ونخبوي متنام، وفي سياق تصاعد التيارات القومية والرفض العلني لما بات ينظر إليه كاستعمار جديد بأدوات قديمة.
هذا الانحسار المتسارع للوجود العسكري الفرنسي يعكس انكسارا واضحا لإستراتيجيات التدخل الخارجي التقليدية، التي لطالما إعتمدت على إتفاقيات دفاعية غير متكافئة، أو على دعم أنظمة هشة مقابل تأبيد النفوذ الخارجي. ومما يعمق من وقع هذا التراجع، أن الانسحابات تأتي في لحظة إنتقال عالمي متوتر، يعرف تغير موازين القوى، ويعاد فيه رسم الخرائط الأمنية والإقتصادية بتأثير تحولات النظام الدولي وتراجع الأحادية القطبية، الأمر الذي وضع إفريقيا و بما تملكه من ثروات وموقع إستراتيجي في قلب صراع النفوذ الجديد.

مشهد إنسحاب القوات الفرنسية من دولة السينغال لا يختلف عما عرفته مناطق أخرى في مراحل سابقة من التاريخ السياسي الحديث، حين قررت دول ذات سيادة كاملة إنهاء الوجود العسكري الأجنبي على أراضيها، كما حدث في الفلبين التي أنهت اتفاقاتها العسكرية مع الولايات المتحدة، أو في أوزبكستان حين انسحبت القوات الأمريكية من قاعدة “خان آباد”، وهي لحظات شكلت بداية لتحولات سيادية عميقة في هندسة القرار الوطني، وإن كانت بعض التجارب قد شهدت ارتدادات أمنية مؤقتة بفعل الفراغ الذي خلفه الإنسحاب.
وبالنظر إلى السياق الإفريقي الحالي، فإن التحدي لا يكمن فقط في إنهاء التبعية الأمنية والعسكرية ، بل في القدرة على ملء الفراغ بما يعزز المناعة الأمنية للدول الإفريقية من إستثمار الجماعات الإرهابية لهذا الإنسحاب لتوسيع مجال تحركها.الأمر الذي يتطلب بلورة ترتيبات أمنية إقليمية أكثر انسجاما مع الخصوصيات الإفريقية، وأقل ارتهانا للمقاربات الأمنية التقليدية التي أثبتت محدوديتها.
وفي خضم هذا التحول، يبرز دور المملكة المغربية كقوة إقليمية صاعدة، قادرة على المساهمة الفاعلة في صياغة نظام إفريقي جديد أكثر توازنا وإنصافا. فالمغرب ومن خلال مبادرة “تحالف دول الأطلسي الإفريقي” التي أطلقها الملك محمد السادس نصره الله، يقدم نموذجا متقدما في التمكين الأمني والتنمية المندمجة من خلال شراكات جنوب–جنوب قائمة على الندية وتبادل المنافع، لا على الإملاء أو الرعاية والوصاية. كما أن السياسة الإفريقية المتميزة للمملكة و التي تجمع بين الحضور الإقتصادي، والتعاون الديني عبر مؤسسة محمد السادس لتكوين الأمة الأفارقة،إضافة إلى الإنخراط الأمني الذكي والإستباقي الذي تلعبه الأجهزة الامنية المغربية ، كلها تشكل أحد أهم البدائل السيادية القادرة على المساهمة في إعادة تشكيل التوازنات القارية الجديدة.

ختاما، إن إنسحاب فرنسا من السنغال لا ينبغي النظر إليه كإجراء تقني أو تكتيكي فقط ، بل كعنوان لإنهيار منظومة كاملة من الوصاية وفقدان للشرعية في ظل صحوة إفريقية تعيد الاعتبار لفكرة السيادة الوطنية. إنه إنسحاب يفتح الباب أمام كتابة صفحة جديدة في تاريخ القارة قوامها التحرر من التبعية وبناء شراكات متكافئة، وتمكين قوى الداخل من صياغة مستقبلها بعيدا عن منطق القواعد الأجنبية والوصاية الجيوسياسية.

ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان.
خبير في نزاع الصحراء المغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى