سلايدرمغرب

قانون المسطرة الجنائية الجديد رقم 03/23 ورهان صون الحقوق والحريات

بقلم د/ الحسين بكار السباعي
محام بهيئة المحامين لدى محاكم الإستئناف بأكادير وكلميم والعيون.
مقبول لدى محكمة النقض.

يمثل القانون رقم 03.23 محطة مفصلية في مسار تحديث العدالة الجنائية بالمغرب، بما يحمله من إعادة هندسة حديثة للبحث التمهيدي والتحقيق والمحاكمة، وبما يدخله من مفاهيم رقمية وتقنيات مستجدة لم يكن لها حضور صريح في المنظومة الإجرائية السابقة. قانون جاء ليستجيب لتحولات مجتمعية وتكنولوجية عميقة، وليحاول تقليص الهوة التي أحدثتها الجرائم الإلكترونية والوسائط الرقمية في بنية الإثبات والإجراءات الجنائية، دون أن يخلو ذلك من جدل قانوني وحقوقي واسع حول حدود الموازنة بين فعالية العدالة وحرمة الحقوق والحريات.

لقد أدخل المشرع المغربي مفاهيم غير مسبوقة كـ “الاختراق” و”الوسائل التكنولوجية والإلكترونية”، ورفع من قيمة البيانات الرقمية في منظومة الإثبات، وفتح المجال لإعتماد التسجيلات والإتصالات والنسخ الإلكترونية كوسائل يمكن أن تؤثر في مسار المتابعة والمحاكمة. كما أتاح إمكانية رقمنة بعض الإجراءات، وتوسيع صلاحيات الضابطة القضائية والنيابة العامة ضمن شروط يفترض أن تكون محكومة بمبادئ الضرورة والتناسب والرقابة القضائية. وهي مستجدات تقارب ما إعتمدته بعض التشريعات المقارنة، مثل التشريع الفرنسي الذي وضع ضوابط دقيقة لإذن الاختراق “l’intrusion numérique” وقيود زمنية صارمة على مدة النفاذ إلى الأنظمة المعلوماتية، كما أن التجربة الألمانية حصرت هذا الإجراء في حالات إستثنائية وقرنت كل تدخل إلكتروني بإذن قضائي مسبق وتعليل مفصل للحاجة الضرورية إليه. غير أن إدخال هذه الوسائل التقنية، على أهميتها، يطرح تحديات غير يسيرة من زاوية الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة. فغياب معايير تشغيلية دقيقة قد يفتح الباب أمام توسع غير منضبط في سلطة الجهات المكلفة بالبحث، ولا سيما في ما يتعلق بجمع البيانات من الأجهزة والأنظمة المعلوماتية، والإطلاع على مراسلات رقمية قد تطال الحياة الخاصة بشكل واسع يتجاوز مقتضيات الضرورة. كما أن غموض حدود التناسب، وعدم التنصيص التفصيلي على آليات الحذف وحماية البيانات الشخصية، يثير قلق مشروع في ضوء التزامات المغرب الدولية، وبخاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يجعل كل تقييد للخصوصية خاضع لإختبار مزدوج يفرض مراعاة مبدأي الضرورة والملاءمة. كما أن مسألة حضور الدفاع وحقه في الإطلاع على الأدلة الرقمية، ومعاينة سلسلة حفظها، تشكل نقطة حاسمة في مدى إنسجام القانون الجديد مع مقومات المحاكمة العادلة. ونسجل هنا ملاحظة نقدية أساسية مفادها أن القانون، وإن فتح الباب أمام الإثبات الرقمي، فإنه لم يحدد بشكل دقيق كيفيات تمكين الدفاع من الطعن في مصداقية هذه الأدلة، ولا معايير الخبرة الرقمية المستقلة، وهي مسائل عالجتها بعض الأنظمة المقارنة بصرامة أكبر، إذ اشترطت إرفاق كل دليل إلكتروني بسجل زمني لإجراءات الحفظ “chain of custody” وإلزامية أن تخضع الملفات الرقمية لتوقيعات تقنية تمنع العبث بها، تحت رقابة قضائية مباشرة.

و من الناحية المؤسسية، فإن نجاح القانون مرهون بمدى جاهزية البنية التقنية والقضائية. فإعتماد أدوات رقمية على مستوى البحث والتحقيق يفترض وجود مختبرات جنائية معتمدة، وأطر قضائية وأمنية مكونة تكوينا عاليا، ونظم حفظ مؤمنة وفق المعايير الدولية. وإلا فإن الخطر يظل قائما بأن تتحول النصوص إلى قواعد نظرية غير قابلة للتنزيل، أو أن يسقط القضاء أدلة جمعت بشكل غير مطابق للمعايير التقنية، كما وقع في عدد من الأحكام القضائية المقارنة التي أبطل فيها القضاء الفرنسي أدلة رقمية لغياب ضمانات الحفظ والتوثيق. غير أنه ومع هذه الملاحظات النقدية المتواضعة ، لا يمكن إنكار أن القانون رقم 03.23 يمثل خطوة ضرورية في مواجهة جريمة رقمية متسارعة التطور، وفي تحديث آليات العدالة بما يجعلها قادرة على إستيعاب ممارسات العصر. فالتوازن بين مقتضيات الأمن القضائي وحرمة الحريات الفردية يظل رهين إصدار لوائح تطبيقية دقيقة، وتعزيز الرقابة القضائية على الإجراءات التقنية، وتجويد التكوين المؤسساتي، وإرساء ثقافة حقوقية تستوعب أن التكنولوجيا، على أهميتها، لا ينبغي أن تتحول إلى غطاء يمس جوهر الضمانات الدستورية.

ختاما، إن المغرب اليوم يقف أمام فرصة لصياغة نموذج متوازن في العدالة الجنائية الرقمية، نموذج لا يستدرج فيه المشرع إلى منطق “الفعالية الإجرائية دون ضوابط”، ولا يعلق فيه إحترام الحقوق على تقدير إداري أو تقني غير خاضع للرقابة القضائية. فالقانون في نهاية المطاف ليس مجرد نصوص ومواد مبوبة، بل هو فلسفة حماية قبل أن يكون منظومة ضبط مجتمعي، وتحديه الأكبر أن يستوعب تطورات العصر دون أن يتجاوز حقوق الإنسان.

زر الذهاب إلى الأعلى